<data:blog.pageTitle/> <data:blog.pageName/> - <data:blog.title/>
ساحة حرة

في وداعٍ صامتٍ… قبلةٌ على جبين أمي…

 

 

عدن توداي

 

كل غيابٍ قد يُعوَّض، إلا غياب الأم وفقدها الأبدي.
وفقدُكِ يا أمي ليس لحظةً عابرة، بل هو عمرٌ من الفراغ الهادئ الذي يجتاح روحي ولا تُقاس مساحته.
غيابٌ لا يُملأ، ولا تراه العين، لكنه يُلمس في كل تفاصيل الحياة التي لا ينتبه لها أحد.
وجعٌ لا يشبهه وجع، لا يدركه إلا من عاش انطفاء النور في عينيه، ومن سُحبت من قلبه يدُ الطمأنينة إلى غير رجعة.

ودونكِ يا أمي، أعيش عمرًا ناقصًا، وبقايا أيامٍ لا تكتمل.
ودونكِ، من أين لي بصباحاتٍ تشرق بضحكتكِ؟ وكيف تطيب مساءاتي إن لم تكن خاتمتها دعواتكِ الدافئة؟
أين اليد التي كانت تبلسم جروحي قبل أن أشتكي؟
كل صباحٍ دون إشراقة رضاكِ، يولد ناقصًا.
كل صباحٍ يُولد مبتورًا دون دعائكِ.
وكل مساءٍ ينطفئ إن لم يُختتم بابتهالتك .

أشتاقكِ في تفاصيل لا تُرى، في همسةٍ تشبه طمأنتكِ حين تصلين، وحين تدعين.
وبين يديكِ كنتُ أضع كل مخاوفي.
في كل مرة أحتاج فيها إلى دعائكِ ولا أسمعه،
في كل فرحٍ يُولد ناقصًا لأن عينيكِ لم تباركاه،
في لحظة انكسار حين لا أجد فيها الحضن الذي أُسند ضعفي عليه.

أمي…
في كل لغات الأرض، اسمكِ يُنطق بالمسمى ذاته، لا يُترجم، لأنكِ اللغة ذاتها.
ومن حروف اسمكِ يُشتقّ معنى الوجود، وفي “ميم” الأمومة تستقر كل المعاني، وتستقر أمومةُ الكون.
وكل لغةٍ يخلو اسم الأم فيها من ميم الأمومة ، هي لغة عرجاء، ولغة ناقصة .

كبرتُ يا أمي، لكنني ما زلتُ ذلك الطفل الذي دونكِ يتهاوى ويتعثر،
وفي ظل غيابكِ تنهشه الوحشة، وتسكنه الذكريات.
في غرفتكِ الريفية المهجورة في الطابق السفلي، حيث عشتِ سنواتكِ الطويلة بصبرٍ ورضا،
وجدتُ كلّ أشيائكِ البسيطة كما تركتها يداكِ، كأنها ما زالت تنتظرك.

المصباح القديم – الفانوس – ما زال على حاله، يكسوه الغبار،
لكنه ما زال يشعّ بفيض روحكِ، كما كنتِ تضيئين به ليالينا، وقلبي حين يعتم، وتهدين بنوره خطى أحفادكِ، من أكبرهم غمدان، إلى أصغرهم أحمد فؤاد.

سجادتكِ المصنوعة من سعف النخيل، قميص صلاتكِ المطوي بعناية، ما زالا يحملان رائحة الكافور والسبو والمشاقر، وكأنكِ صليتِ بهما البارحة.
وحتى محراث الحديد القديم، “مِخرَش الأرض”، الذي احتفظتِ به كذكرى من أبي، ما زال ساكنًا في الزاوية، لا صوت له، يعتريه الصدأ،
لكنه يشهد على زمن الأرض حين كانت تنبض بالعطاء، ويدكِ حين كانت تنبض بالحياة.

كل شيء هنا يذكّرنا بكِ… الجدران، والأشجار، والأحواش، وبقايا خلايا النحل، ومِجران السبول، رائحة التراب في الطرقات، وأحجار وصمت المكان الذي هجرناه، وأجبرناكِ على هجره إلى المدينة.
كل شيء هنا خاص بكِ، وكأنه عالمكِ الصغير، يفتش عن ظلكِ في كل زاوية.

هنا، قضيتِ عمركِ بين الحقول، والأحواش، والزريبة، ترعين الحياة بأنفاسكِ وصبرك ، وتبلسمين شقوق الزمن في أرواحنا بحنانكِ.
واليوم، ترقدين في نفس المكان الذي أحببتِه، بسلامٍ وطمأنينة، في نعيمٍ نرجوه لكِ،جوار أبي، ورفقة زوجته الأولى خالتي خضرة، في المقبرة التي أوقفها أبي لله، واحتضنته أولًا، وسبقكما إليها منذ واحدٍ وعشرين عامًا.

رحلتِ، لكنكِ تركتِ كل شيء ينبض بكِ… وكأنكِ لم ترحلي.

اليوم أعود مُجبرًا إلى بيتي في المدينة بدونكِ، ولا أجدكِ هنا.
لكنني أعرف جيدًا أين أنتِ، وأعلم أني تركتكِ هناك، حيث لا وجع.
وأعلم أنني حين أشتاق إليكِ، سأأتي إليكِ، لكنني إلى ذلك الحين، ما زلتُ هنا… في وطن الألم الذي بدأ منذ رحيلكِ.

أستيقظ كل صباحٍ على صمتٍ لا يشبهكِ،
على جدران لا تُنادي باسمي، كما اعتدتِ في السنوات الأخيرة،
حين كنتُ أجدكِ كل صباحٍ في انتظاري، ولم أعد أذكر صباحًا بدأ دونكِ.
لأنكِ كنتِ أنتِ الصباح، وأنتِ الضوء حين يخفت الضوء،
والمعنى حين تتوه الحروف.
كنتِ مزارع روحي التي تهفو اليك
ونهاري الذي يبدأ بابتهال دعواتكِ، وصومعة مهدي وأنتِ بيدكِ تُداعبين خدي بحنوّ يشبه صلاةً خفية.

أفتقدكِ يا أمي…
يا عيون الكون، حين كانت تضحك لي عيونكِ،
ويا ضوء الحياة، حين تشتدّ عتمة طريقي،
ويا سكون الطمأنينة، حين يضيق الصدر،
يا صوت الطبيعة، حين تُنادينني باسمي، بعد كل صلاة.

أفتقد رائحة الطفولة في حضنكِ،
ولمستكِ التي كانت تسبق الكلمات،
وهمستكِ التي كانت تُترجم كل وجع.
يا نبع أنهار طفولتي،
منكِ تعلّمتُ هجاء الكلمات الأولى،
واسمكِ… أول من نطق به لساني.
وحين بدأتُ أحبو على الأرض وأقف بثقة،
كنتُ أعلم أن يدًا تقف خلفي… ولن تخذلني.

كل كلمات الحب باهتة،
وكل أفعال البر ناقصة،
وكل عبارات الامتنان خجولة…
اسمكِ… مبتدأٌ مرفوعٌ أبدًا بالمحبة،
وأنا… ضميرٌ متصلٌ بكِ، لا يظهر، ولا يُفهم، ولا يُعرَّف إلا بكِ.
فمن أنا إن لم أكن “ابنكِ”؟
ومن أنا…
يا من كانت كل نبضات قلبي تدقّ على وقع حبها،
كل حروف الحب دونكِ… صامتة، لا تنبض.
تتعطّل لغة الرثاء، وتفقد مفردات الحزن توازنها، حين يبكيكِ ألمي.

كل ألوان أوراقي باهتة…
أمام بياض حليبكِ، وروحكِ الطاهرة.
كل الأصوات مشوَّشة،
منذ غاب صوتكِ الذي كان يُردِّد اسمي.
وكل طَعمٍ في الحياة…
ناقص، منذ أن غاب طَعم حضوركِ،
في ذاك الصباح الذي فاضت فيه روحكِ إلى بارئها.

أعلم يا أمي، أن ما بيننا لا تقطعه المسافات،
وأن حبكِ لا يموت.
لكنني في كل صباحٍ أفتقدكِ، كمن فقد الحياة ذاتها،
كمن يحيا بنصف ظل، ونصف قلب، ونصف دعاء.
رحمكِ الله يا دفءَ أيامي، وجعل الفردوس مقامك، ففيه وحده، أرجو أن تشرق عليك صباحات لا تنتهي
سلامٌ عليكِ في الغياب،
وسلامٌ عليكِ في كل لحظةٍ تقول لي الحياة فيها:
“هنا كانت أمي”…
وكل ما عدا ذلك… فراغ وأيام لم تُكتمل.
======
ابنك الحزين
مهدي علواني المشولي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار